الخميس، 30 مارس 2017

أسلحة، جراثيم وفولاذ

قرأت مؤخراً عن جزيرة تقع جنوب غرب نيوزيلاندا لم أسمع بها من قبل، اسمها (تشاتام)، سكنها شعب بدائي مسالم، وتعرض للإبادة من قبل بني عمومته الأكثر تمدناً من نيوزيلاندا.. هذه باختصار قصة شعبيْ الموريوري والماوري اللذين كانا شعباً واحداً قبل أن يهاجر قسم منهم إلى الجزيرة الصغيرة ويكوّن مجتمعاً صغيراً بدائياً استمر في الاعتماد على صيد الأسماك وجمع الثمار، بينما أتيحت الفرصة لبني عمومته لتكوين مجتمع أكثر تقدماً ولسوء الحظ أكثر عدوانية. تعبّر قصة إبادة الموريوري عن تجربة حقيقية حديثة نسبياً (1835م) تمثل تاريخ البشر المليء بالحروب والاستعمار ودور تنوع البيئات في اختلاف المجتمعات البشرية.
مازلت في بدايات قراءتي للكتاب الممتع (أسلحة، جراثيم، وفولاذ) الذي يبحث في أسباب تفوق مجتمعات على أخرى واستعمارها، لماذا استعمر الأوربيون العالم الجديد ولم يحدث العكس؟ لماذا امتلكوا الأسلحة والمعرفة قبل غيرهم؟ وهل تصح الادعاءات بأنهم جنس بشري أرقى وأكثر ذكاء، أم أن أسباباً بيئية وجغرافية بحتة هي التي أدت لهذا التفوق؟
مما زاد فضولي للاستمرار بقراءة الكتاب، تسليطه الضوء على مجتمعات بولينيزيا وجزر المحيط الهادي النائية الساحرة بجمالها ولا نعرف عن شعوبها وتاريخها أي شيء تقريباً، اتخذها المؤلف كنموذج لدراسة تأثير البيئة والجغرافيا على مصائر المجتمعات، كون هذه الجزر أحدث الأماكن استيطاناً ومتنوعة بيئياً، وهي صغيرة الحجم وبالتالي تكون بداية جيدة لفهم الصراعات الكبيرة والقديمة.
تتناول كتب التاريخ الأحداث عادة ابتداءً من أول الحضارات الإنسانية التي عرفت الكتابة وتركت آثاراً وتراثاً، حضارات بلاد الرافدين والفراعنة والصينيين وما بعدها.. ولكن ماذا عن ما قبل هذه الحضارات، أليس له أي دور فيما نعيشه اليوم؟ ألا يستحق تاريخ امتد لعشرات الآلاف من السنين اهتمامنا وفضولنا العلمي؟
يتحدث كتاب (أسلحة، جراثيم، وفولاذ) عن التاريخ الكبير للبشرية، منذ بدايات الجنس البشري في قارتنا الأم أفريقيا، وتوالي الهجرات إلى آسيا وأوروبا وشرق آسيا وأستراليا وأمريكا، ويتناول تطور المجتمعات البشرية من أبسط أشكالها (الصيد والجمع) حيث اعتمد على صيد الفرائس وجمع الثمار والتنقل إلى مناطق أخرى.. ثم التطور إلى مجتمعات الزراعة وتدجين الحيوانات، وانتهاءً بالقرى والمدن التي تتميز بتخصص الأفراد وتقسيم المهام وبالتالي التفرغ للاكتشاف والابتكار والإبداع.
أحد الأسئلة التي يحاول أن يجيب عنها المؤلف: لماذا تطورت مجتمعات في أنحاء من العالم دون الأخرى، أو سبقتها بقرون طويلة؟
بإمكاننا بسهولة البحث عن إجابة تساؤلاتنا حول المنتصر في أي معركة تاريخية مثلاً، ولكن هل توجد إجابات جاهزة عن أحداث ما قبل 6000 سنة ورجوعاً إلى 150 ألف سنة تقريباً من تاريخ البشر؟ كيف تعامل أجدادنا مع أخطار الحياة البرية؟ كيف نجوا من عصور ثلجية متعددة؟ كيف تسيدنا على بقية الحيوانات؟ كيف ومتى انتشرنا في أرجاء الأرض؟*
هنالك الكثير من الأسئلة التي لا نجد لها جواباً واضحاً في كتب التاريخ، ولكن فضول الإنسان لم يستسلم وأخذ العلماء يبحثون في الآثار المدفونة وطبقات الأرض للبحث عن قصص وملاحم لم تسطّرها الكتب.
هذا الفضول الفطري من المؤسف أن يتوقف عند الكثيرين بدوافع دينية وهمية، البحث العلمي يجب أن لا يتوقف عند أي حد، فلولا هذا الفضول العلمي المطلق لما وصل البشر لهذا المستوى المبهر من التقدم العلمي والطبي والتكنولوجي، ولتوقفوا عن البحث بحجة أن "الله خلقه هكذا"، أو "دلّ من النصوص الدينية غير ذلك". لا ينبغي للمؤمن أن يضع بعض الاكتشافات العلمية والتاريخية في موضع صراع مع الدين فالنصوص الدينية لم تكن أبداً لغايات علمية وكلنا نعلم أن أكثر النصوص الدينية قابل لأكثر من فهم وكثيراً ما تم التراجع عن تفسيرات دينية بعد تبيّن خطأها..
لا تضع أي حد لمعرفة تفاصيل هذا العالم الجميل الذي نعيش فيه، فلو شاء خالقه لجعله بلا أدلة.. خالٍ من البصمات التي قادتنا لكل هذه الاكتشافات العلمية والتاريخية!

==
هامش:
*إن كنت مهتماً بإجابات هذه الأسئلة وأمثالها فأنصحك بقراءة كتاب (تاريخ الأحداث الكبرى) لسينثيا براون.