الأربعاء، 20 سبتمبر 2017

نظرية التطور، والتوزيع الجغرافي للكائنات الحية


(التوزيع الجغرافي) للكائنات الحية هو أحد الأدلة الجميلة على صحة نظرية التطور، يُذكر عادة كدليل ثانوي بعد الأدلة الرئيسية الثلاث: الجينية والأحفورية والجنينية.

توزيع الحيوانات جغرافياً، سواء من قارة لأخرى أو في القارة نفسها، يتوافق تماماً مع آلية نظرية التطور، من خلال تطورها عبر مدة طويلة جداً حسب أماكن تواجدها وإمكانية تحركها وهجرتها، ولم توجد كما هي في نقطة بداية وانتشرت.

وقد لاحظ علماء الطبيعة أن المناطق المعزولة جغرافياً بجبل أو واد أو بحر أو نهر تكون بيئة مناسبة لنشأة أنواع مختلفة من الحيوانات، ويكون فيها الاختلاف ملائماً للبيئة وموافقاً للانتخاب الطبيعي.

يُعد وجود نوعين شبيهين على ضفتي نهر (مثلاً) مؤشراً قوياً على أن أسلافهما كانت نوعاً واحداً وحدث التغيير بعد الانفصال الجغرافي. هذا الانفصال الجغرافي لقسم صغير من الكائن الحي وانعزاله يتيح له الفرصة للتغير في الصفات مبتعداً عن "المستودع الجيني" الذي يصعب تغييره في العشيرة الكبيرة التي تقضي على أي طفرة - وإن كانت مفيدة - عن طريق التزاوج واختلاط الجينات الذي يفرض سيادة المستودع الجيني.

كما لاحظ العلماء وجود نوع من النسبة والتناسب بين صعوبة العزلة الجغرافية وقِدم حدوثها، ودرجة الاختلاف بين نوع الكائن الحي وقريبه في الجهة الأخرى، بتعبير آخر: كلما كانت عزلة المنطقة أشد وأقدم كان الاختلاف أكبر، وهذا موافق تماماً لآلية التطور التي تحتاج إلى الوقت والانعزال لحدوث التغيير بين بني العمومة من الكائنات الحية.

من الأمثلة على ذلك، التنوع والاختلاف في غالاباغوس بين طيور الجزر القريبة من بعضها، وبين بني عمومتها الأبعد على البر الرئيسي في أمريكا الجنوبية، فلماذا تكون طيور الجزر القريبة متشابهة في الصفات (وإن كانت أنواعاً مختلفة) بينما طيور القارة مختلفة أكثر، إلا لأن الوقت والعزل أتاح لطيور الجزر التطور بدرجة كبيرة عن طيور القارة بينما لم يتيحا لنفس طيور الجزر لتختلف كثيراً عن بعضها البعض؟

مثال آخر على قوة الانعزال الجغرافي هو خلو أستراليا* من كل أنواع الثدييات إلا الجرابية (الكيسية)، باستثناء الوطاويط التي تستطيع الطيران وعبور الجزر، فلماذا لا توجد في استراليا أي خراف أو قردة أو قطط، إلا لأن سلفاً مشتركاً بين الثدييات الأولية هاجر في وقت قديم جداً كانت فيه أستراليا متصلة مع العالم، وأمكن لهذا الحيوان الثدي البدائي أن يتطور وينشئ سلالة فريدة كالكنغر والكوالا وشيطان تسمانيا**.

نأتي إلى الضفادع، فقد لاحظ علماء الطبيعة بأنها لا تعيش (بصفة أصلية!) في أي من جزر المحيطات في العالم، لسبب بسيط وهو أن بيضها يموت في المياه المالحة، وبالتالي فإن هجرتها عبر المحيطات مستحيلة، ولكن لحسن الحظ فإن قاراتنا المنفصلة كانت لفترة طويلة جداً قارة واحدة متصلة، أتاحت لأسلاف الضفادع الانتشار والتنوع، في نطاق القارات فقط.

جاء اكتشاف "نظرية الانجراف القاري" ليؤكد نظرية التطور ويتوافق مع التوزيع الجغرافي الحالي للكائنات الحية، حيث نجد "بني العمومة" في القارات رغم انفصالها الحالي، ونرى الاختلاف والتنوع في كل عائلة وجنس ونوع في شجرة عائلة الكائنات الحية.. فهناك قرد أمريكا الجنوبية العنكبوتي وليمور مدغشقر ومكاك أندونيسيا الأسود وشمبانزي أفريقيا.. كل هذا التنوع الذي لم يكن ليحدث لولا ابتعاد القارات والعوازل الجغرافية التي أتاحت لها للتميز.

====
* أقصد بخلو القارة، خلوّها بالظروف الطبيعية، لأن البشر بعد استيطان القارة نقلوا مختلف أنواع الحيوانات معهم، فإن كنت لم تسمع عن قصة توطين الجمال في الأراضي الأسترالية وما نتج عنه من تبعات.. فمن منا لا يعرف الخراف الأسترالية!؟
** أنواع أخرى من الثديات الجرابية تعيش في أمريكا الجنوبية، وهي حقيقة وإن كانت للوهلة الأولى تبدو مستغربة، ولكن يزول العجب عندما نعلم بأن قارتي أستراليا وأمريكا الجنوبية (إضافة إلى القطب الجنوبي) كانت متصلة في مرحلة ما قبل الانفصال والابتعاد إلى مواقعها الحالية.