الأربعاء، 14 أكتوبر 2015

مهزلة العقل البشري


لو كان بيدي أن أختار فكرة واحدة ليعرفها ويؤمن بها كل البشر، فكرة واحدة فقط، فلن أختار شيئاً من عقيدتي الدينية، ولن أختار فكرة سياسية قد تقلل الأزمات السياسية، وبالطبع لن أتمنى أن يشجع الجميع منتخب ألمانيا!! لأنه يعني نهاية إثارة مباريات كرة القدم وفقدان نشوة الفوز بكأس العالم :)

الفكرة التي أرغب بشدة بإقناع العالم بها هي: "مهزلة العقل البشري"!

أن أفكارك كلها وعقائدك وآراءك وقناعاتك ليست بالحقيقة الصافية التي تتصورها، هي نتيجة معالجة عقلك للمعطيات والتدخلات الكثيرة والمتنوعة. عقل كل واحد منا يخضع لتأثير هائل من محيطه الاجتماعي، هل هي صدفة أن الأغلبية الساحقة من كل أسرة وفئة اجتماعية تتشابه بالانتماءات إلى حد كبير؟ هل تتصور أن هذه الغالبية الساحقة تتعمد جحود "الحق"؟ لا! العقل البشري يميل إلى تصديق أفكار المحيط ويخضع لأمواج البيئة التي ينتمي إليها، يشعر بالاستقرار المريح بالمحافظة على الأفكار التي رضع منها في صغره وتغذى عليها في شبابه.

العقل البشري قادر بشكل خيالي على خلق وتطويع كل المبادئ للاقتناع بصحة أفكاره وتبرير كل الحقائق والأحداث والتناقضات، يركز على نقاط قوة ويتغاضى عن نقاط ضعف.. ألا ترى أن هناك الكثير من العقلاء من مختلف الأديان والتيارات السياسية المتعارضة الذين لا يُشك بحُسن إدراكهم ويستحيل تواطؤهم وعنادهم جميعاً؟ ربما تجيب: صحيح، هؤلاء تأثروا بمحيطهم ولذلك لا يرون الحق حقاً.. والمصيبة هنا: الإنسان دائماً يستثني نفسه من هذه القاعدة.. يا صاحبي أنت وجماعتك لستم بدعاً من البشر.. أنتم أيضاً ضحية لـ "مهزلة العقل البشري"!

من هنا تجد تعبيراً شائعاً عندنا يقال كلما جاء أحد برأي جديد أو شكك بأحد الثوابت، فيقول: "يا فلان شبهتك هذي مردود عليها".. هكذا وبكل بساطة، ما دام هناك من العلماء والمفكرين الأجلاء من رد على هذه الشبهة فلا داع لتفكر حتى فيها أو تقرأ وتقيّم الرد عليها ما دام موجوداً.

للأسف الشديد فإن "مهزلة العقل البشري" في أعلى المستويات في مجتمعاتنا العربية المسلمة، عقولنا في صناديق مقفلة، غسيل المخ على أعلى مستوى، طبقنا المثل "التعليم بالصغر كالنقش على الحجر" حرفياً على أبنائنا، ومارسنا بشكل ممنهج تنويماً مغناطيسياً يفوق ما تقدمه عروض التنويم المغناطيسي في لاس فيغاس! أما الآية الكريمة "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون" فهي مختصة بالكافرين فقط.. أما من يشك بأفكارنا فهو منبوذ وكافر!

متى ما أدركنا حقيقة عقلنا البشري أصبح الطريق ممهداً لنبذ مرض التعصب والطائفية الذي ينخر بمجتمعاتنا ويشعل الحروب ويريق الدماء، متى ما تقبلنا الآخر وتفهمنا اختلافه وقناعته قضينا على الحواجز التي تفرّق بيننا والتصنيفات التي أخرجتنا من دائرة الإنسان وحضن الوطن.. إدراك هذه الحقيقة هي النجاة لنا من الفساد والتخلف والدمار.

"مهزلة العقل البشري" هو عنوان كتاب للدكتور علي الوردي نُشر سنة 1959، يتناول فكرة هذه المقالة بعمق أكبر ومنظور علم الاجتماع مع مناقشة منطق أرسطو والفلاسفة والخوض في خلافات المسلمين التاريخية التي لا تزال تعصف بأمتنا ليومنا هذا. ستختلف على الأغلب مع بعض تحليلات المؤلف التاريخية فليس هو متخصصاً في التاريخ ولكن الكتاب سيكون ملهماً لك وممتعاً لأعلى درجة..
كتاب واجب القراءة!










هناك تعليق واحد: