الأحد، 21 يونيو 2020

ملاحظات على د. إياد قنيبي في (رحلة اليقين) ونقده لنظرية التطور

عند الحديث عن نظرية انجراف القارات وتحرك الصفائح التكتونية، أو نظرية تشكل الكواكب من غبار النجوم، أو نظرية الانفجار العظيم أو النظرية النسبية، لن تجد النقاش الساخن كما هو الحال مع نظرية التطور. فمع كونها نظرية علمية بحتة، إلا أنها - ولأسباب مفهومة - تمس عمق الذات البشرية فتضعها في غصن من أغصان شجرة الحياة بعد أن كانت تتربع على عرش مملكتها. أن تؤمن بالتطور، يعني تلقائياً تغير الصورة التي ترى نفسك بها كإنسان، أعضاؤك - ومنها عقلك - نتجت ضمن عملية طبيعية تطورية معقدة، وأسلافك ليسوا مجرد بشر، أنت مرتبط بكل أشكال الحياة، أنت Homo sapiens.

يُعد إياد قنيبي وهو دكتور متخصص في علم الأدوية، أحد أشهر المتصدّين للنظرية في عالمنا العربي والرافضين لها رفضاً قاطعاً من منطلق عقلي وعلمي وديني، فخلال نقاشاتي العابرة حول النظرية في الدواوين أو وسائل التواصل الاجتماعي وجدت كثرة الاستشهاد بقنيبي، فيقال لي مثلاً: "ولكن نظرية التطور ليست في مصاف النظريات الثابتة، ألم تشاهد حلقات (رحلة اليقين) وكيف فنّدها قنيبي"، فكان تكرار الاستشهاد والإحالة إلى قنيبي هو ما دفعني إلى كتابة هذا المقال.

ملاحظاتي على (رحلة اليقين):

صنفت ملاحظاتي على إياد قنيبي في نقده نظرية التطور إلى ثلاثة أقسام:

1.        تصورات قنيبي الخاطئة عن نظرية التطور والاستدلالات الضعيفة لتفنيدها.

2.        استدلالات ضعيفة لتفنيد بعض الأدلة على نظرية التطور.

3.        تلاعب في المقصود من الأدلة على نظرية التطور.

ملاحظة: سأشير إلى رقم الحلقة التي أقتبس منها بـ (ح) اختصاراً.

تصورات قنيبي الخاطئة عن نظرية التطور واستدلالاته الضعيفة لتفنيدها

o          لم يعرض د. إياد قنيبي نظرية التطور بشكل عادل ومنصف، وبالتالي فإن تفنيده لا يطال نظرية التطور، بل النسخة المشوهة التي عرضها (وسأحاول توضيح ذلك هنا)، ولذلك فقد وقع في مغالطة رجل القش، ولا قيمة حقيقية لردوده.

o          اعتمد قنيبي بشكل كبير على السخرية والتسخيف للنظرية ومن يقول بصحتها، فأطلق عليها أوصاف مثل:
سخف، غباء، خرافة، استعباط، تخريف، تخلف، مهزلة، تهريجات، هَبَل...
وهو أسلوب لا يضيف أي قيمة علمية لمحتواه ولكن للأسف الشديد يحقق مكاسب إعلامية وهمية ويتلقى صدى أكبر.


o          في كل حلقاته، يصر على ربط التطور بالإلحاد، وكأنهما متلازمان لا يمكن الفصل بينهما، في حين أنه لا يوجد أي مانع من تصديق التطور والإيمان بالله، وهناك فعلاً حركات فكرية منتشرة عند الغرب خصوصاً، توفّق بين الإيمان والنظرية، كحركة التصميم الذكي (Intelligent Design) أو التطور الإلهي (Theistic Evolution).
وفي هذا المقال، يستعرض زياد حسنين كيف تعامل المفكرون المسلمون مع نظرية التطور:
https://elmahatta.com/?p=35312
(وللكاتب بالمناسبة مقالات قيمة في نقد حلقات إياد قنيبي)

o          إن كانت الأديان السماوية تنشأ من دعوات أنبياء ورسالات رسل، فالنظريات العلمية لا ترتبط بأول من اكتشفها وصاغها بالطريقة ذاتها، أي أنك إن نلت من داروين فلن تسقط النظرية تلقائياً ونهائياً. داروين نفسه لم يدّع الحقيقة المطلقة الكاملة، واشتهر بعبارة: "أنا أعتقد..." (I thinkلذلك كان من غير المنطقي التركيز في الاستشهاد والرد على داروين وكأنه "نبي التطور".
نحن نعلم أن داروين عاش وكتب كتابه قبل ظهور الأدلة الجينية والأحفورية الهائلة واكتشافات أخرى مهمة، ومع ذلك توصل إلى آلية التطور بملاحظاته الدقيقة واستنتاجاته الفريدة.

o          كان من الغريب جداً إصرار قنيبي على اعتبار (اللاماركية) ركناً من أركان نظرية داروين (ح21) لإشارته إليها أو غيرها من الاحتمالات على طرق توريث الصفات الجديدة. لقد سبقت نظرية داروين علم الوراثة الذي حل لغز توريث الصفات، والتي جاء اكتشافها لاحقاً انتصاراً لدراوين وتأكيداً لنظريته، ويُحسب له أنه صاغ النظرية قبل اكتشاف أحد أهم آلياتها.
إن إنكار قنيبي على داروين جهله لآلية توريث الصفات الجديدة كالإنكار على غاليليو جهله بقوانين القوة والجاذبية، أو لوم نيوتن على جهله بانحناء الزمكان!

o          تتناول نظرية التطور تطور جميع الكائنات الحية من أصل واحد وفقاً لآلية الانتقاء الطبيعي، أي أن عملها يبدأ بعد تكوّن الحياة على الأرض ولا تعنى بتفسير بدايتها، لذلك ربط النظرية بفرضيات (التولد الذاتي) البائدة أو أي آلية وتصور عن نشوء أول خلية حية فهو أيضاً محاولة يائسة لتشويه النظرية. (ح21،22،39)

o          يكرر قنيبي في الكثير من حلقاته كلمتي "الصدفة" و"العشوائية" لوصف الآلية التي تقوم عليها النظرية، هنا يجب علي التنبيه على أن وصف العشوائية يصح على أحد أضلاع التطور وهو الطفرات الوراثية التي تؤدي إلى التنوع في الصفات، أما الضلع الآخر المهم - أعني الانتقاء الطبيعي - فهو ليس عشوائياً أبداً، فالأكثر ملاءمة لبيئته يعيش وينجب ذرية ويملك فرصة أكبر للبقاء، وهو سبب تراكم الطفرات الإيجابية.

o          استدل قنيبي على اختلاف التصورات والتفسيرات في بعض التفاصيل على بطلان التطور، وهو استدلال غريب عجيب ومع ذلك شائع جداً من قبل معارضي النظرية، لاسيما مع ظهور أي دراسة جديدة تقترح تعديلاً على شجرة التطور، وقد غفل هؤلاء عن موقع هذه الاختلافات، فهي في التفاصيل الصغيرة ولكنها تؤكد أصل النظرية. (وسنشير إلى ذلك بمثال حفرية آردي)
حاول قنيبي جاهداً (ح37) تصوير التطور أنه على مذاهب شتى يكفّر بعضهم بعضاً، ويسخر بعضهم من بعض، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى! وهذه حجة لا تستدعي أبداً التوقف عندها إلا بالإشارة إلى أن الاختلاف موجود داخل أي علم أو بنية فكرية أو دين، فهل لغير المسلم حجة إذا قال: "الإسلام على مذاهب شتى يضلل ويكفر بعضهم وبعضاً ويختلفون في أصول الدين وفروعه، فأي نسخة من الإسلام تريدونني أن أتبع!؟"


o          أحد هذه الاختلافات التي سلط الضوء عليها (ح38) هو عدم عشوائية الطفرات، وإن كان يبدو لي أن هذا الرأي غير معتبر كثيراً عند علماء البيولوجيا التطورية، فهو لا يتعارض في كل أوجهه مع التطور وآلياته، فدراسة (Nature) التي عرضها مثلاً تذكر أن الانتخاب الطبيعي هو الذي يقلل معدل الطفرات الضارة، وبالتالي لا تخرج عدم عشوائية الطفرات عن دائرة الانتخاب الطبيعي، ومبدأ عشوائية الطفرات لا يعني أصلاً أن كلها محتمل الحدوث بدرجة متساوية بأي حال من الأحوال.
ناقش دوكنز بعض أوجه الخلاف هذه في الفصل الأخير من (صانع الساعات الأعمى)، فراجع للمزيد.


o          من ضمن الأفكار المختلفة التي ركّز عليها (ح37) هو التطور السريع أو الظهور المفاجئ (هل تتغير الأنواع بشكل تدريجي بطيء أم تحدث قفزات تطورية)، ولن أخوض فيها هنا سوى بالإشارة إلى السرعة المشار إليها في هذه الآراء نسبية ولا تتعارض مع آلية النظرية، ولا يصح إطلاقاً على أساسها تصوير التطور على أنه "أصبح لا يحتاج آلاف من السنوات وإنما دفعة واحدة"، ولا تصح نسبته إلى ستيفن جاي غولد القول بأنه "ظهور مفاجئ مكتمل التكوين".
تحدث دوكنز بفصل كامل عن هذه الخلافات في صانع الساعات الأعمى (ص299-337، دار العين للنشر)، فراجعه إن أردت التفصيل.
كما أن كل التصورات لا تختلف على أن التغير المفاجئ للظروف البيئية كالتصادم النيزكي وانقراض الديناصورات والتغير المناخي يسرّع من وتيرة التطور.
وفي المقابل لا تشكّل حفرية لكائن يبدو أنه لم يتغير منذ ملايين السنين أي إشكال على النظرية، فالانتقاء الطبيعي لا يمانع استمرار نوع معين ما دامت البيئة ملائمة لاستمراره، وأبسط مثال على ذلك البكتيريا التي لا تزال وحيدة الخلية منذ مليارات السنوات.

o          استدل على بطلان النظرية بوجود أسئلة غير محسومة حول بعض الحالات، كظهور مفاجئ للتنوع في الأحافير أو غيابها.
في كل نظرية علمية وفي مختلف العلوم هناك دوماً أسئلة لم يجب عنها بشكل قاطع، ولا يعني ذلك بالضرورة التشكيك في أصل النظريات العلمية وإنما هو سبب استمرار البحوث والدراسات، في كل علم هناك صعوبات وأوجه قصور تصعّب حل كل الألغاز، فإن كان في الفيزياء تحديات في رصد الجسيمات بالغة الصغر أو المادة المظلمة، ففي البيولوجيا التطورية صعوبات في ملء وتصحيح الشجرة التطورية واستنتاج تاريخ تطور الأعضاء الحيوية بسبب عدم اكتمال السجل الأحفوري وأسباب أخرى.
إن من نقاط قوة المنهج العلمي اعترافه بمواقع القصور والتصحيح الدائم، وفي إجابته على أسئلة وطرح أسئلة جديدة.

o          لا شك أن الانفجار الكامبري يمثل أحد المواضيع المثيرة في دراسة الأحافير والتاريخ التطوري، ويحمل أسئلة لا تزال محل بحث، كالظهور المفاجئ نسبياً للتنوع الحيوي. أحد التفسيرات المعقولة هو أن الحيوانات قبل العصر الكامبري ربما كانت صغيرة ولينة جداً مما يقلل فرص تواجدها في السجل الأحفوري، فلا يدل وجود الحفريات في طبقة العصر الكامبري بشكل فجائي بالضرورة على أنها لم تتطور عن شيء قبلها كما ادعى (ح36).
لن أطيل هنا في الحديث عن هذا الموضوع وأحيلكم على قراءة الكتب والدراسات المتخصصة، ولكن أشير إلى معلومة مغلوطة ذكرها هنا قنيبي، قائلاً (ح23) أن أحافير العصر الكامبري هي لحيوانات لم تنقرض (ولم تتطور) وهو ادعاء يتضح بطلانه لمن راجع المصادر التي تعدد أنواع أحافير العصر الكامبري، وادعاؤه هذا يخفي شعوراً بالتناقض عند الاحتجاج بأحافير هذا العصر لأنها تظهر حيوانات أبسط جداً من التنوع الحيوي اليوم، وتؤيد لمسار نظرية التطور وإن كانت تحمل أسئلة لم يجد العلماء بعد جواباً حاسماً كاملاً لها
.

o          ومن أمثلته أيضاً (ح38) عن الألغاز الغامضة: حالات خاصة من التطور كالتشابه الشكلي لنوعين مختلفين من الأسماك (بعيدين جينياً) في بحيرتين منفصلتين، ونشوء تفسيرات أو تصورات لأسباب هذا التطور، هذا بطبيعة الحال لا يشكك في نظرية التطور، فالظروف المشابهة (قوى الانتخاب الطبيعي) وإن اختلف المسار التطوري يمكن أن تنتج أشكالاً متشابهة، ومن الطبيعي أن في كل بحيرة ظروفاً متنوعة كما قد تتشارك البحيرتان في نفس الظرف (كالعمق الذي تعيش فيه، درجة الحرارة، الغذاء...) فتنتج أشكالاً وتكيفات متشابهة.
يطلق على هذا النوع من التطور (
Analogy) في مقابل التطور في البنية والوظائف الناتجة عن النشوء من سلف تطوري مشترك (Homology).
هناك الكثير من الحالات التي يمكن التأمل بها للمقارنة، فاقرأ عن: تطور العين عند أنواع مختلفة وبعيدة بشكل مستقل، أو عن تشابه الحيوانات القطبية في اللون كالثعلب القطبي الأبيض والدب القطبي الأبيض، أو عن تطور الأجنحة بشكل مستقل عند الطيور والحشرات والخفافيش.
كلها أمثلة تعزز من جمالية نظرية التطور وتدعو للتأمل والتفكير والبحث.

o          من غريب ما استشكل هنا، أن الوطواط والحوت طوّرا آلية مشابهة للاستكشاف وهي السونار رغم الاختلاف الشاسع بين البيئتين.
يدل هذا الإشكال عن سوء فهم عميق للنظرية، وكان ليكون مستحقاً لو أن سونار الوطواط يعمل في الماء لا في الهواء، أو سونار الحوت يعمل في الهواء لا في الماء!

o          من خلط الأوراق الذي مارسه (ح38) التركيز على عبارات من بعض الدراسات تشير إلى أن الانتقاء الطبيعي موجه عبر مسارات محددة وأن هذا يعارض مبدأ الانتقاء الطبيعي الأعمى على حد تعبيره. لم يوضح وجه المعارضة والإشكال في وجود حدود لمسارات التطور، ومن البديهي أن التطور ليس مفتوحاً لكل الاحتمالات بل محكوم بالمحتوى الجيني الحالي وتركيب جسم الكائن الحي وظروف البيئة التي يعيش فيها، فعلى سبيل المثال، لن تجد عالماً تطورياً يتوقع أن تتطور إحدى سلالات الحصان إلى حصان طائر ولو بعد مليون سنة.

o          يبحث قنيبي أحياناً عن أي قشة لإضعاف النظرية، كأن يصبح مقال نشر في صحيفة النيويورك تايمز ذا قيمة كبيرة، فيقول (ح28): "هذا المقال الذي شقّ طريقه إلى نيويورك تايمز"، وكأنها أحد المجلات العلمية المرموقة، ويشير إلى مايكل كريمو (ح43) الذي يعتقد أن الإنسان الحديث تواجد منذ ملايين السنين - وهو رأي غريب لا يقبله التطوريون ولا قنيبي - فقط للتشكيك في تقدير أعمار الأحافير، ثم يسلط الضوء على الألماني رينير فون زايتن (ح44) الذي تبين تلاعبه بتواريخ عظام بشرية، وتصوير حالاته وكأنها زلزلت علم الآثار والأصول البشرية، مع العلم أن الحالات التي تلاعب بها تخص تاريخ البشر الحديث (عشرات الآلاف من السنين) ولا ترتبط بالحفريات الانتقالية الأقدم، ولم يسفر هذا الكشف عن أي تغيير في التصورات العلمية لتاريخ تطور البشر.. وأمثلة أخرى كثيرة.

o          قال قنيبي باستحالة التطورات التدريجية للزرافة مثلاً (ح27) لأنها تحتاج تغيرات متوازية كالقلب والأوعية الدموية مع استطالة الرقبة والفقرات وغيرها.
لست مؤهلاً لإجابة إشكاله بالتفصيل،
لكن بعض علماء البيولوجيا التطورية كتبوا كتباً لشرح آلية التطور بشكل تدريجي بطيء تراكمي ومتوازي، كدوكنز الذي أجاد شرحها وتبسيطها، وإن اختلفنا مع استنتاجاته الفلسفية خارج نطاق العلم.
عندما نفكر في تطور الزرافة (أو أي مثال تطوري آخر) ينبغي أن ندرك أننا ندرس حدثاً أخذ مجراه عبر ملايين السنين، بينما نحن نعيش في نطاق مائة سنة وأقل، عقلنا يتقبل بسهولة حقيقة أن الجنين يتطور من نطفة إلى إنسان بالغ خلال عشرين سنة، ولكن يصعب عليه تصور التغيرات البطيئة جداً، كتكوّن الغراند كانيون (
Grand Canyon) خلال ملايين السنين بسبب جريان بطيء للمياه، أو تحرّك القارات وانفصالها واصطدامها، أو تشكل الكواكب من غبار النجوم، أو انفجار الكون من نقطة واحدة... أو تطور الزرافة من حيوان يشبه الغزالة.
عند التفكير بالزرافة واستطالة عنقها، حاول أن تفكر بتنوّع أطوال البشر في العالم اليوم، بل فكر في تنوّع الأطوال في الجيل الواحد في عائلة واحدة (دون أن يسبب هذا الاختلاف أي مشاكل حيوية)، فإذا كانت التغييرات المتوازية ممكنة في جيل واحد ولو على مستوى بسيط (أطوال الفقرات والأوعية الدموية...) فلماذا نستبعدها على مستوى أعظم على مدى آلاف وملايين الأجيال؟ ولاحظ أيضاً التنوعات التي نراها في الكلاب بأشكال وأحجام وألوان مختلفة وهي حدثت في مدة قصيرة نسبياً من خلال انتقاء البشر للسلالات، وكذلك في انتقاء الثمار وتحسين صفاتها وأشكالها وأحجامها في فترة تطورية قصيرة.
عودة إلى مثال الزرافة، فقد بيّن قنيبي سوء فهم عميق لأساسيات الوراثة عندما قال بأن الطفرة أو مجموع الطفرات التي تسببت باستطالة الزرافة الذكر يجب أن يصادف تزاوجها من زرافة أنثى أنتجت نفس الطفرات! (كرر سوء الفهم نفسه في حلقات لاحقة) ولذلك أدعو مجدداً لقراءة الكتب التي شرحت أساسيات التطور والوراثة والجينات.

وفي ختام الحديث عن الزرافة، أدعو القارئ للرجوع إلى شواهد التطور المميزة فيها، كفقرات رقبتها السبع المساوية لعدد فقرات رقبة البشر، أو العصب الحنجري الراجع الذي يحكي عن تاريخ تطوري طويل ومعقد، تحدث عنه دوكنز (أعظم استعراض فوق الأرض ج2 ص231-236،
المركز القومي للترجمة).

o          اختار قنيبي نهج التركيز على أدلة باطلة واستدلالات ضعيفة من بعض مؤيدي النظرية أو مما عفا عليه الدهر، وتسليط الضوء عليه وكأنه هو معتمد النظرية. من ذلك: حفرية الأركيورابتور في الصين، وحفريتا إنسانيْ بلتداون ونبراسكا (ح35،44) التي ثبت بطلانها، ولن تجد لها أي ذكر في إثبات نظرية التطور (وتغاضي عن العدد الهائل للحفريات المتعلقة بتطور البشر وغيره). يريد قنيبي من هذه الحالة أن يوحي بأن أي حفرية يتم الاحتجاج بها هي موضع شك كحفرية نبراسكا، وهي مغالطة واضحة فإن كذب "س" لا يعني أبداً أن الجميع يكذب (مغالطة التعميم المتسرع)، وفي الأمثلة التي أوردهاً فإن تصحيح الخطأ جاء من قبل المجتمع العلمي ذاته، لا من معارضي التطور.
ومثال آخر على تركيزه على أدلة واهية: عرض صور مفبركة لمولود مع ذيل واستدلال البعض على الأصل المشترك مع القردة (ح32).

o          بمنطق د. قنيبي، يستلزم التطور العبث والعشوائية، ولذلك ليس للأمراض في نظر التطوريين علاج بالضرورة، فلا يجدون أي داع للبحث والاستكشاف! (ح39)
وهو يعلم يقيناً أهمية دراسة الطفرات الوراثية في فهمنا للأمراض وعلاجها.

استدلالات ضعيفة لتفنيد بعض الأدلة على نظرية التطور

o          ينكر قنيبي أن تكون الطفرات سبباً لأي تكيف مفيد (ح22) ويبدو أنه يعزو التكيفات جميعاً إلى تفعيل جينات موجودة أصلاً، وهنا قادته حربه على نظرية التطور لتطال أحد مسلّمات علم الوراثة والجينات، وهو دور الطفرات الجينية في تغير الصفات، فمن بديهيات علم الجينات دور الاختلاف في الحمض النووي والتعدد في أشكال النوكليوتيدات المفردة في تشفير البروتينات المختلفة وتغير الصفات وبالتالي التكيف (والطفرات هي الآلية الأهم في هذا التنوع اللامحدود)، راجع مثلاً الدراسات المتعلقة بـ:

1.        لون البشرة والشعر، حيث تم تحديد مواقع الجينات المسؤولة عنه، ويمكن التنبؤ بلون بشرة وشعر الشخص بقراءة نسخ هذه الجينات.

2.        لون العينين، فيمكن التنبؤ به بناء على تحليل الجينات المسؤولة.

3.        عمى الألوان الذي يصيب الرجال أكثر من النساء بسبب امتلاكهم لنسخة واحدة من الكروموسوم X حيث يتواجد الجين المسؤول.

4.        التحورات الجينية التي تسبب كثافة في الشعر واختلاف في الغدد العرقية وشكل الأسنان الأمامية.

5.        الإصابة الحتمية بأمراض أو زيادة احتماليتها أو المناعة منها بسبب طفرات وتنوعات جينية في مواقع جينية محددة، ومن هذه الأمراض: مرض هتنغتون (تسببه طفرة جينية واحدة)، فقر الدم بأنواعه، الملاريا، نقص المناعة المكتسبة (بعض الناس لديهم طفرة وراثية تمنع من الإصابة بالمرض)، بعض أنواع السرطان، متلازمة داون.

6.        الحساسية وقابلية هضم بعض الأغذية مثل الحليب، وعلاقته التكيفية.

لابد أنكم سمعتم عن أبحاث الهندسة الوراثية والتجارب الجارية على تعديل الجينات، ومنها ما حاز على جائزة نوبل في الكيمياء سنة 2018 بنجاح الفريق في إجراء تعديلات على جينات بكتيريا لإنتاج بروتينات تستخدم في العلاجات الطبية. الغريب والمحير أن قنيبي قد خصص عنها جزءاً من حديثه (ح42) لإنكار دور فهم عملية التطور فيها من خلال تركيزه على أن التعديلات التي تمت كانت بهندسة وقصد وليست عشوائية كالطفرات!
ولا أدري بأي منطق يمكن تصديق وتقبل تدخل البشر المقصود لإجراء تغييرات جينية مقصودة، بمقابل الرفض المطلق لإمكانية أن تنتج العوامل الطبيعية طفرات مفيدة من بين عدة طفرات عشوائية ضارة أو محايدة، ويتم الانتقاء الطبيعي للطفرات المفيدة تراكمياً على مدى ملايين ومليارات السنين.
والأغرب أنه في نفس الحلقة، يعترف بأن البكتيريا المقاومة للمضادات تحصل فيها تغييرات جينية تجعلها أكثر مناعة للمضادات الحيوية، ويتوقف معترضاً على "العشوائية" فقط، وكأنه صار هنا أقرب لقبول التطور من خلال (التصميم الذكي) منه إلى موقفه الحازم ضد التطور بكل أشكاله في كل حلقاته السابقة.

o          في المثال الذي أورده للدلالة على بطلان الطفرات المفيدة وإثبات "التكيف المسبق" (ملحق ح22) وهو عن تجربة بكتيريا E. Coli التي يبدو من خلال بحث سريع أنها تجربة طويلة ومعقدة وذات بحوث ونتائج كثيرة جداً، تحدث عنها دوكنز في كتابه في جانبين مستقلين فقط من نتائجها ويمكن تلخيصهما كالتالي:

1.        التكيف الذي أدى إلى الاستفادة من الجلوكوز بكفاءة أكبر من قبل سلالات من البكتيريا.

2.        التكيف اللاحق الذي أدى إلى إمكانية التغذي على السترات من قبل سلالات نادرة وبالتالي تضخم عددها.

في الجزء الأول من التجربة ذكر دوكنز عدد الجينات الطافرة بالتحديد في السلالات المتطورة، ولم يحاول قنيبي تفنيد هذا الجانب. وفي الجزء الثاني ذكر دوكنز فرضياته وتنبؤاته لأسبابها، وإن كان ما ذكره قنيبي صحيحاً عن التكيف المسبق، فسؤالي هو: هذا التكيف المسبق الذي تميزت به سلالات معينة من البكتيريا في التجربة، أليس ناشئاً عن طفرات في أجيال سابقة، وهو سبب تكيف هذه السلالة دون الأخرى؟ هذا ما ذُكر في ملخص الدراسة التي احتج بها والمتعلقة بتلك التجربة التي تبدو طويلة ومعقدة وذات بحوث ونتائج كثيرة جداً.


o          يعتبر دليل الحفريات من أهم الأدلة على نظرية التطور، وقد خصص للرد عليها حلقة من حلقاته (ح28)، وادعى مراراً وتكراراُ على مدار الحلقة غياب السجل الأحفوري للحيوانات الانتقالية اللانهائية كما تفترض النظرية (وادعى بكل بساطة أن الأحافير جلها لحيوانات تعيش اليوم!)، وأقول باختصار:

1.        السجل الأحفوري غني جداً بالأدلة على التطور، إن كانت الأحافير المتعلقة بتطور البشر فقط تعد بالآلاف، فبإمكانك تصور ضخامة ما نمتلك من أحافير تؤكد المسار التطوري. ابحث في أي موسوعة عن تطور أي حيوان يخطر في بالك، وستجد حيوانات انتقالية كثيرة معتمدة على ما وجده العلماء، ومنها ابحث عن الدراسات العلمية المنشورة حولها، هناك علم متخصص في دراسة حياة ما قبل التاريخ وتطور الكائنات وهو علم الأحياء القديمة أو علم الإحاثة (Paleontology).
إن ما لدينا من أحافير لا يشير فقط إلى وجود الكائنات البدائية والانتقالية بل يكفي لرسم مسار زمني يتوافق مع تصور نظرية التطور، استناداً إلى الطرق العلمية المتاحة لتقدير عمر كل أحفورة.

2.        مع كثرة ما لدينا من أحافير إلا أنه لا يشكل إلا نقطة في بحر الكائنات التي عاشت وانقرضت، وفي أي كتاب علمي يتناول موضوع الأحافير ستجد أن من بديهياته الصعوبة البالغة لتحوّل جثة حيوان مات منذ ملايين السنين إلى أحفورة سليمة، وقد عُددت العوامل الواجب تحققها والأسباب التي تجعلها نادرة الحدوث، والغريب أن ناقداً للنظرية يغفل عن الإشارة إلى هذه الحقيقة.
في النتيجة، فإن ما وصل إلينا من أحافير لأنواع منقرضة لا يشكل إلا نسبة قليلة من الأنواع التي عاشت على الأرض، ولكنها كافية للدلالة الواضحة على التطور. بالمقابل، فإن بإمكان معارضي النظرية قبول التحدي الذي أعلنه أحد العلماء (وهو ج.ب.س هالدين) لتفنيد النظرية، فقط من خلال الحصول على حفرية توجد في الطبقة الجيولوجية الخطأ، كحفرية أرنب مثلاً في الحقب ما قبل الكامبرية!

o          سلط قنيبي (ح33) الضوء على اختلاف نسب تشابه الحمض النووي بين البشر والشمبانزي المنشورة في مصادر مختلفة، وكذلك اختلاف تعريف هذه النسبة المئوية، وحاول استغلالها لتفنيد الدليل الجيني على التطور ووحدة الأصل بشكل مطلق، وملاحظاتي هنا:

·           لا يوجد تعريف موحّد للنسبة المئوية للتشابه، ومن الطبيعي أن تختلف النسبة من دراسة لأخرى حسب التعريف، فيبدو (من خلال عرض قنيبي نفسه) أن بعض الدراسات اختارت التتابعات الجينية القابلة للمقارنة لاغية الأخرى لصعوبة المقارنة، ودراسات أخرى اختارت التتابعات الجينية المشفرة للبروتينات فقط (الجينات)، وأخرى اختارت التتابعات غير المشفرة لها. أنواع المقارنات أعقد من هذا، وقد تحدث عنها دوكنز في كتابه (أعظم استعراض فوق الأرض ج2 ص161-170) بنوع من التفصيل شارحاً اختلاف النسب وطرق القياس والمقارنة.
فمن الطبيعي إذن أن تختلف الأرقام، فهي ليست مقدسة ولا تحمل تعريفاً موحداً. لا تحمل النسبة 99% للتشابه الجيني بين البشر والشمبانزي أي دلالة خاصة، وليست هي الغاية والبرهان القاطع على التطور ولا تعبّر بحد ذاتها عن الدليل الجيني.

·           لا معنى لمقارنة نسبة تشابه البشر مع الشمبانزي حسب تعريف معين مع نسبة تشابه البشر مع الفأر حسب تعريف آخر، وعرض قنيبي لمقارنة هذه الأرقام مجرد خلط للأوراق.

·           في اقتباس له من مجلة Nature ينقل ساخراً: "99% من جينات أحد أنواع الفئران لها شبيهات في الإنسان"، في ترجمة مدلسة لكلمة Counterpart الذي تعني هنا النظير، أي أن المقصود أن لـ 99% من تلك الجينات المرصودة للفأر نظيراً لها عند البشر، من غير تحديد نسبة المتطابق منها مع البشر.

·           لا شك أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين المقارنة الجينية والعلاقة القرابية، ويمكن تقدير عمر السلف المشترك بين أي نوعين من خلال دراسة اختلاف الجينات ومقارنة الطفرات فتعمل كـ "ساعات جزيئية".
تتنبأ شركات التحليل الجيني التجارية بصلات القرابة بين البشر، فتؤكد بأن "س" هو والد "ص"، وابن عم "ع" من الدرجة الأولى، وابن عم من الدرجة الرابعة أو الخامسة لـ "ك"،
جرّب أن تقوم باختبار الـ DNA واختر أياً من أقربائك، وسيحدد لك الاختبار بدقة صلة القرابة.
بنفس الطريقة، يمكن تحديد الصلة القرابية بين البشر وغيرهم من الحيوانات بتقدير الزمن الذي عاش فيه السلف المشترك الأقرب، فالتحليل الجيني أثبت بشكل قاطع أن الشمبانزي أقرب إلينا من سائر الثدييات، والثدييات أقرب إلينا من سائر الفقاريات، وهكذا.

·           التفاصيل الصغيرة مهمة جداً لتقييم ما ذكره قنيبي عن نسبة الشبه، ولمن أراد الاطلاع أكثر بهذا الخصوص فليراجع هذه المقالة:
https://elmahatta.com/?p=22199

·           كنقطة جانبية، استغرب قنيبي مستنكراً كيف أن أي اختلاف جيني وجدناه بين البشر والشمبانزي نتج عنه أيضاً جين فعال وسليم وكائن متكامل متناسق بالصدفة والعشوائية! غافلاً عن دور الانتقاء الطبيعي في فناء الطفرات الضارة، وغافلاً ثانياً عن كون أغلب الطفرات محايدة ولا تأثير حيوي مؤثر لها. (راجع كتاب دوكنز ج2 ص185-190).

o          استند إلى مغالطة (الاحتكام إلى الجهل) أو (عبء الإثبات) لوصف احتجاج البعض على التطور بعدم وجود وظيفة لبعض الأعضاء الضامرة، أي أن عدم معرفتنا بوظائف بعض الأعضاء لا تعني بالضرورة عدم وجود وظيفة لها. هذا صحيح ولكن هو استعمل نفس المغالطة عند الإشارة إلى أسئلة التطور غير المحسومة أو لغز أصل الحياة.
كما نشير إلى أن الاحتجاج بالأعضاء المضمورة أو المتغيرة على التطور غير مبني على عدم وجود فائدة حالية لها، بل انعدام أو تغير الوظيفة الأصلية للعضو الأصلي الذي نشأ عند السلف القديم للكائن الحي، كما سنوضح في مثالي الحوت والبطريق.

o          التطور والبيولوجيا والخلايا والـ DNA هي عوالم معقدة جداً جداً، ولذلك من الطبيعي أن يتم تصحيح الأفكار والتفاصيل حولها، وتحديد حالات خاصة وشاذة، ومن الطبيعي أن لا يجاب على كل الأسئلة خلال أقل من قرنين منذ طرح النظرية، ولا يعيبها هذا بشيء.

تلاعب في المقصود من الأدلة على نظرية التطور

o          تلاعب في بعض المواضع في المقصود من الأدلة لإبطالها، فمثلاً:

1.        قال بأن الشبه في الشكل لا يعني وحدة الأصل وليس له أي دلالة تطورية، ضارباً في ذلك مثال السنجاب الجرابي والسنجاب المشيمي فهما متشابهان شكلاً ولكن بعيدين تصنيفاً. (ح23)
وحسب فهمه لنظرية التطور يقول: "يفترض أن لا يكون شبه بين الحيوانات المشيمية والجرابية" (ح32).
وقال ساخراً من فكرة التطوريين: "كلما زاد الشبه زادت القرابة، وكلما زادت القرابة زاد الشبه" (ح32)، وبنى على هذا التصور الخاطئ عن النظرية حلقة كاملة طويلة.

·           لم يدّع علماء التطور أن الشبه الخارجي وحده دليل على القرابة التطورية، بل يُنظر له إلى جانب التحليل الجيني، والتركيب التشريحي والفسيولوجي للأعضاء الداخلية، والتوزيع الجغرافي، والأدلة الأحفورية، وغيرها.

·           ذكرنا ضمن قسم التصورات الخاطئة، أن الظروف الانتقائية المتشابهة قد تنتج أشكالاً متشابهة، وليس في هذا خلاف بين التطوريين.

·           الاختلاف الكبير في الشكل بين أنواع الثدييات المشيمية كالفيل والفأر (بمقابل التشابه بين بعض أنواع الثدييات المشيمية والجرابية) معلوم أيضاً ولا يسبب أي ربكة للتطوريين، ولكن بالمقابل فإن أدلة التحليل الجيني والتركيب التشريحي والفسيولوجي والتوزيع الجغرافي تؤكد أن السلف المشترك للثدييات المشيمية جميعاً أحدث من السلف المشترك بين أي منها والثدييات الجرابية.

·           في أحد اقتباساته المصورة (ح32) عن أحد كتب البيولوجيا لإثبات أن "وحدة الشكل" تدل على وحدة الأصل عند التطوريين، كانت الورقة توضح التشابهات "التركيبية" بين عظام بعض الثدييات، وورقة أخرى تنص "التطابق/الانسجام التشريحي يدل على السلف المشترك"، وفي هذين الاقتباسين خلط واضح بين موضوع حلقته "التشابه الشكلي"، و"التشابه التشريحي" الذي يعطي دلالة أقوى على القرابة الجينية من مجرد تشابه الشكل الخارجي.

2.        حاول جاهداً استغلال أي تعديل على شجرة التطور وموقع الأحافير المكتشفة فيها لنسف أهميتها كدليل على التطور، ومنها:

·           سواء كانت حفرية لوسي (ح44) التي تعود لحوالي 3.2 مليون سنة سلفاً مباشراً للبشر أو لا، وإن ثبت أن حفرية آردي (ح36) التي تعود لحوالي 4.4 مليون سنة ليست سلفاً مباشراً للإنسان، ولكنهما مثالان يعززان نظرية التطور وأصل البشر من خلال تأكيد التطور التدريجي والتنوع الطيفي للصفات الجسدية حسب ما تتنبأ به نظرية التطور، فالحفريتان أكدتا أن الرئيسيات لم تكن مقصورة على البشر والشمبانزي والأنواع المعاصرة الأخرى، وامتلاك الحفريتين صفات جسدية وسطية بين البشر الحديث والشمبانزي يؤكد ما تتنبأ به نظرية التطور من تغيرات تدريجية وتنوع مستمر وبطيء للصفات. إن الشجرة التطورية للبشر ليست خطاً مباشراً من رئيسيات إلى قردة عليا إلى إنسان، بل هي أشبه بشبكة عنكبوتية معقدة، ومن المتوقع أن يكون لجدنا المباشر الذي عاش قبل 4.4 مليون سنة بنو عمومة (أنواع قريبة من نوعه، مشابهين له في الصفات ومعاصرين له) ولم يفلحوا في ترك ذرية حية اليوم، وحفرية آردي مثلاً تؤكد هذا التصور.
(في ح28 يشير إلى عملية التطور بأنها خطّية، وهو خطأ شائع في فهم النظرية كان ينبغي ألا يغيب عمّن ينتقد النظرية في أكثر من عشرين حلقة).

·           إنسان النياندرتال (ح35)، حيث يسري عليه ما ذكرنا أعلاه، مع فارق أنه عاصر الإنسان الحديث واحتك معه بل تزاوج معه كما ثبت في تحليل الحمض النووي للأوروبيين وشرق الأسيويين خصوصاً، فبالتالي يمكن وصفه مجازاً بابن عم للبشر الحديث وطيف قريب جداً منه، ولا يصح ما ادعاه قنيبي بوصفهم "بشراً عاديين تماماً وأمة من البشر ولا يقلّون عنا بشيء"، وقد درس علماء الجينات والانثروبولوجيا الفروقات الجينية والجسدية العديدة، وقدّروا السلف المشترك الأقرب ليكون قد عاش قبل حوالي 600 ألف سنة.

·           حفريات سيفابيثيكوس (ح44) التي اكتشفت في الهند وكان يُحتمل سابقاً أنها أسلاف للبشر، ثم تبين أنها أقرب لأن تكون سلفاً لقرد الأورانجوتان، فخرجت من الغصن البشري في الشجرة التطورية إلى غصن الأورانجوتان، فهل يستحق هذا التعديل أي بهرجة واحتفال من قبل معارضي التطور؟

·           حفريات الأركيوبتركس (ح44)، وهو من الديناصورات الشبيهة بالطيور وامتلك ريشاً، ويعد من الأدلة التي تدعم تطور الطيور من الديناصورات، سواء كان سلفاً مباشراً أو قريباً معاصراً لسلفها (مثل حالة آردي بالنسبة للبشر)، وسواء استطاع الطيران أو لم يستطع.

3.        في إحدى حلقاته (ح31) التي امتدت لـ23 دقيقة عن تطور الحوت وعظامه الخلفية، سلّط الضوء على جزئية واحدة فقط - وليست أصلاً مما يستدل به العلماء - فيحاول نسفها. المغالطة كانت في التركيز على دليل وهمي (ادعاء بعض مؤيدي التطور بأن العظام الخلفية للحوت لا فائدة لها) ونسفه بعرض وظائف حيوية لها.
لم تكن أبداً حجة التطوريين هي انعدام وظيفة للأعضاء المضمورة، بل تغير هيئتها تدريجياً مع تطور أسلاف الحوت وتصاغر حجمها وانعدام "وظيفتها الأصلية" التي كانت في هذا المثال المشي على اليابسة.
أما قنيبي فقد حاول حشو حلقته بصور من كتب أو مقاطع من خطب تظهر الادعاء بانعدام وظيفة لهذه العظام، ولاحظت بمراجعة سريعة وقاصرة:

·           بعض الفقرات من الكتب التي عرضها تصف العظام بأنها بقايا أو أثر (vestige) وكان قنيبي يترجمها "عديمة الفائدة"، بينما يعرّف قاموس أكسفورد الكلمة:
"الجزء أو العضو من الكائن الحي الذي صغُر أو انعدمت وظيفته في مسار التطور".
فلا يوجد في التعريف اللغوي جزم بانعدام وظيفته حتى يتصيد فيها على تلك الكتب.

·           كذلك في المقطع الذي يتحدث به ريتشارد دوكنز يفسر الكلمة حرفياً "أعضاء بلا فائدة"، وهو تحريف صريح لكلامه.

·           أما جيري كوين فقد تحدث بشرح مطوّل عن تغير شكل العظام، ومن يستمع لسياقه كاملاً يدرك أنه قصد انعدام الوظيفة لتلك العظام في السير.
https://newmedia.ufm.edu/video/why-evolution-is-true/
وفي كتابه (لماذا التطور حقيقي ص101 طبعة المركز القومي للترجمة) قال: "النظرية التطورية لم تقل إن الخصائص الأثرية عديمة الوظيفة بل بالعكس من الممكن أن تكون أثرية ووظيفية في نفس الوقت ولكنها فقدت وظيفتها الأصلية التي طورت من أجلها".
بل وحتى داروين نفسه قال (كما نقل عنه كوين): "من الممكن للعضو الذي أصبح عديم المنفعة أو ضار بفعل اختلاف ظروف الحياة أن يتحور بسهولة ليستخدم في غرض آخر".
وقد تحدث عن أدلة تطور الحيتان من حيوانات برية كل من دوكنز وكوين في (أعظم استعراض فوق الأرض، ج1 ص246-250)، و (لماذا التطور حقيقي ص87-93) دون أي إشارة لانعدام فائدة عظام الأرجل الخلفية.

ما وجده علماء الإحاثة من آثار لأسلاف الحوت وتغير عظامها زمنياً وتغير وظيفتها دليل رائع على التطور، ولا يُختزل هكذا بكل بساطة بجملة واحدة مشوهة.
وعلى اليوتيوب أعجبني هذا المقطع التعليمي الجميل الذي يعرض أدلة كثيرة متنوعة من الحوت في 11 دقيقة فقط، أي نصف المدة التي لم يتناول فيها قنيبي إلا دليلاً مشوهاً واحداً:
https://youtu.be/lIEoO5KdPvg

 

4.        على نفس منوال عظام الحوت الخلفية، فإن وجه استدلال التطوريين بجناح البطريق كمثال على التطور ليس بادعاء أن لا فائدة أو وظيفة حالية له، بل بالقول أن الأجنحة التي كانت تستخدم أصلاً للطيران (من قبل الطيور السالفة) أصبح لها غرضاً آخر لا علاقة له بالطيران، بسبب المسار التطوري الذي سلكه. ولذلك كان عرض قنيبي (ح30) لفوائد جناح البطريق للسباحة التي لا ينكرها عاقل مجرد تحصيل حاصل، بعرض الحجة بصورة هشة والرد عليها، وهي مغالطة (رجل القش) بما أن قنيبي يحب سرد المغالطات المنطقية.
وفي مثال البطريق قال جيري كوين (ص100):
"ففي طائر البطريق تحورت الأجنحة إلى زعانف تسمح للطائر بالسباحة تحت الماء بسرعة مدهشة. تتشكل أجنحة هذه الطيور من نفس العظام الموجودة في الأجنحة المستغلة للطيران، وذلك لأن الطيور غير القادرة على الطيران لم تصمم هكذا بل جاءت نتيجة للتطور من الأسلاف الطائرة مما يؤيد تطورها وإلا ما كان هناك داع لأن تمتلك أجنحة بنفس التركيب العظمي لأجنحة الطيور التي تطير بما في ذلك الأجنحة الزعنفية للبطريق".

5.        نفس المغالطة استخدمها قنيبي عن الأعضاء الضامرة كالزائدة الدودية، ونسب إلى جيري كوين القول أنها "بلا فائدة" (ح29)، وبمراجعة كتابه نجده يقول، بعد الحديث عن استصال الزائدة الدودية (ص105):
"إنما من الإنصاف القول بأن هناك فائدة بسيطة للزائدة الدودية تكمن في أنها تحتوي على قطع نسيجية صغيرة تعمل كجزء من الجهاز المناعي. هناك وظيفة أخرى تقوم بها الزائدة الدودية وهي أنها مأوى للبكتيريا المعوية النافعة..." ثم بيّن أن فوائدها البسيطة لا تقارن بالمشاكل التي يمكن أن تسببها.

o          بمقابل ما أشرنا إليه من استدلالات واهية لضرب النظرية وتفنيد أدلتها وكذلك في التلاعب من استدلال مؤيدي التطور، أنكر قنيبي بشكل مطلق وجود أي حفريات انتقالية (ح23) وتجاهل بحراً من الأدلة القوية والدراسات العلمية في مختلف المجالات على صحة النظرية، لست هنا بصدد سرد الأدلة، ولكن في النهاية أحيل القارئ إلى بعض الكتب المترجمة التي يمكن الرجوع إليها، وفيها أدلة كثيرة ومتنوعة:

1.        أعظم استعراض فوق الأرض - أدلة التطور: ريتشارد دوكنز.

2.        لماذا التطور حقيقي: جيري كوين.

3.        حقيقة التطور: كاميرون سميث.

===================

كتابات سابقة متعلقة بموضوع التطور:

دليل التوزيع الجغرافي على التطور:
https://hashimplus.blogspot.com/2017/09/blog-post.html

تلخيص كتاب آدم راذرفورد (A Brief History of Everyone Who Ever Lived):
https://twitter.com/haljazzaf/status/1047871335173689346?s=20

تلخيص كتاب (أشهر 10 خرافات حول التطور):
https://twitter.com/haljazzaf/status/1264280381165121541?s=20


هناك تعليقان (2):