السبت، 7 نوفمبر 2015

الطائفية.. هنا وهناك



"الطائفية" كلمة شائعة جداً كثيرة الاستخدام في مجالسنا وشبكات التواصل الاجتماعي، ونعني بها بالمجمل: التمييز بين الناس وإساءة التعامل معهم على أساس الطائفة الدينية، وإثارة الفتنة والكراهية والعداء بسبب الاختلاف في الطائفة.

أظن أن أغلب الناس يتفقون على هذا التعريف، ولكن في التفاصيل وفي الأمثلة والمصاديق نجد اختلافات كثيرة وعميقة، ونلاحظ وجود تصادمات وتداخلات بين الطائفية وحرية الرأي.

"الطائفية" في اللغة الإنجليزية تسمى:
Sectarianism

وتعرّف – في ويكيبيديا الإنجليزية - بأنها: التعصب والتفرقة والكراهية بسبب الفروقات بين مجموعات فرعية من ضمن مجموعة أشمل، كطوائف الدين الواحد، والتعصب القومي والطبقية والتعصب لمنطقة معينة أو لحركة سياسية في دولة واحدة.

وهذه الكلمة لمن يتابع وسائل الإعلام الإنجليزية غير شائعة الاستخدام وقليلاً ما نرى لها ذكراً، ولعل جل الأخبار المتعلقة بها تخص العرب والمسلمين، وتحديداً الجزء المختص بالطوائف دون الفروقات الأخرى المذكورة في التعريف. المصطلح الأكثر شيوعاً عند الغرب والقريب من معنى الطائفية هو "خطاب الكراهية" وتعريفه هو:

التهجم على شخص أو مجموعة على أساس الجنس أو العرق أو الدين أو التوجه الجنسي وغيرها، أو أي خطاب يشمل تحريضاً أو تحاملاً أو تهديداً أو عدم احترام للمجموعات. فالتعريف إذن يشمل الطائفة وغيرها.

هناك دول شرعت قوانين حازمة تجرم خطاب الكراهية مثل كندا وفرنسا وألمانيا. أما في الدول العربية فقد سمعنا عن طرح قوانين جديدة لتجريم خطاب الكراهية والطائفية وازدراء الأديان، وسط جدل مستمر في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي حول واقعية وجدية تطبيقها وكيفية التوفيق بينها وحرية الرأي.  


ومن اللافت ذكره أن صفحة "خطاب الكراهية" في ويكيبيديا موجودة بـ 32 لغة مختلفة (حتى ساعة كتابة هذا المقال) ليس من بينها اللغة العربية!

أما "العنصرية" والخطاب العنصري فهو جزء خاص من نطاق "خطاب الكراهية" الأعم، ويشمل الفئات التي ليس للإنسان اختيار الانتماء لها كالجنس واللون والعرق، أما الدين فلا يدخل في نطاق العنصرية.
وهنا بالمناسبة يحاول المؤيدون لإسرائيل الخلط بين الإسرائيلي كمواطن في الدولة الصهيونية، والإسرائيلي كفرد يهودي من ذرية النبي يعقوب (إسرائيل)، وتصوير أي هجوم إعلامي على دولة إسرائيل - كونها دولة مزعومة لليهود - هجوماً على العرق اليهودي والديانة اليهودية وبالتالي وصمه بالعنصرية و"معاداة الساميّة"! وهو تلاعب واضح في المفاهيم لترهيب الإعلام من أي نقد يمس إسرائيل.

(الصورتان من ويكيبيديا)


نعود لتعريف الطائفية عند المسلمين (خلونا بمشاكلنا!)..

فإن المأزق والمطب الذي يعيقنا هو مصاديق الطائفية وحدود تعريفها، والواضح هو أن كل طرف يضع التعريف الذي يناسبه ويحميه ويدين الآخر! كما أن ثقافتنا التي تعاني من حساسية مفرطة تجاه النقد للأفكار والممارسات الدينية والطعن بالشخصيات التاريخية أدت إلى تداخل وتضارب تعريف الطائفية بـ "حرية الرأي". إذا أردنا تبسيط التعريف فهناك نوعان مما يُطلق عليه الخطاب الطائفي:
1- الخطاب الطائفي المباشر الذي يهاجم طائفة بعينها، وأحياناً إخراجها من الملة، وفي أقصى درجاتها استحلال دماء متّبعيها.
2- الهجوم على الرموز المقدسة للطوائف وعلى عقائدها وشعائرها.

الخلاف الأكبر يكمن في النوع الثاني، فهو خارج التعريف الغربي لـ "خطاب الكراهية" بحدّ ذاته ويدخل ضمن حرية الرأي، وفي حوادث الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة أوضح مثال على تفاعل كل من المسلمين والغرب واختلافهم في نطاق الخطاب الطائفي وحرية الرأي، السبب يعود للحساسية الشديدة في ثقافة المسلمين من كل ما يمس الشخصيات المقدسة.

أما في نطاق المذاهب الإسلامية، فمشاعر التحامل والكراهية والعداء التاريخية يعود جزء كبير منها إلى المواقف السلبية تجاه بعض الشخصيات المقدسة والمعظَّمة عند طرف دون الآخر، لاسيما إذا جاءت بطريقة استفزازية مليئة بمفردات الشتم والتحقير. هذه التراكمات ولّدت حساسية مفرطة كان ضحيتها "الحوار العلمي" الذي وضعه البعض في نفس خانة الخطاب الطائفي، ووضعه البعض الآخر شعاراً ومبرراً لتفريغ طائفيته وحقده!

عودة إلى النوع الأول، فاستحلال الدماء لا شك في تجريمه مهما اختلف التعريف، أما التكفير والإخراج من الإسلام فبحد ذاته هو حرية فكر ورأي، ولكن لأن الإخراج من الدين فتح باب استحلال الدم والعرض والمال واقترن بذلك، تم تجريم واستنكار "الفكر التكفيري"، وهي معضلة لا تعاني منها سوى أمتنا التي لا تفصل بين انتماء الإنسان الديني وحقوقه في المساواة والعدالة والحياة!

تراشق الاتهامات بالطائفية في وسائلنا يتعدى النوعين السابقين لينال جل من له موقف سياسي من حرب أو ثورة ودون ذلك، إني وإن كنت أتفق بأن للطائفية دور واضح في اتخاذ المواقف، ولكن أفضّل إدراج هذا الاستقطاب السياسي المذهبي تحت عنوان "مهزلة العقل البشري" الذي تحدثت عنه في مقال سابق، فالحقيقة أن صاحب أي موقف مصدق فعلاً لصحة موقفه ومؤمن أنه تكليف شرعي ونصرة للحق وللمظلوم.. وإن انقلبت الأدوار سيجد أيضاً من المبررات والأسباب ما يجعله مطمئن البال لصحة موقفه!

أحياناً أتصور أن اتهام شخص ما بالطائفية غير منطقي، لأننا جميعاً نملك حيزاً طائفياً في قلوبنا مهما كان صغيراً كامناً، فإن لم يكن الشخص طائفياً صريحاً، فلابد أن فيه شيئاً من التأثير الطائفي في التفكير والتحليل السياسي وتفسير الأحداث، أو في شدة ردود أفعاله من خطأ وفاجعة وظلم هنا وهناك، وإن لم يكن كذلك فقد يكون طائفياً في التحيز – ولو على مستوى التفكير فقط - ضد الجماعات الأخرى والتعميم عليها ورسم صور نمطية عنها، ولعل أبسط تأثيرات الطائفية وأوضحها في شبكة علاقات الشخص الاجتماعية مع الآخرين ومصادقاته وحتى في مدى ارتياحه لهم.

من المفارقات أن اليهودي والمسيحي يعيشان بوفاق تام، فلا المسيحي يتضايق من اعتقاد اليهودي بطلان دعوة عيسى ومنزلته اللاهوتية، ولا اليهودي ينزعج من اتهام المسيحي لأسلافه بصلب وتعذيب وقتل عيسى ابن الرب!

أعتقد أن الخلاص لأمتنا هو في مواكبة الثقافة الإنسانية المعاصرة، في معاملة الإنسان كإنسان وعدم التدخل في عقائده ومناسكه وعلاقته مع ربه ورأيه بفلان وعلان من السابقين، وعلى الأقل مراعاة خصوصية حساسيتنا الثقافية باحترام مشاعر الآخرين ومقدساتهم، وإدراك أن اعتناق الناس لأديانهم هو في الغالب نتيجة ولادتهم لآباء من تلك الديانة والإنسان مفطور بتقبّل ما تربى عليه واتباعه.

هذا هو الطريق الوحيد لعمارة الأرض التي أوجبها الله بالعقل والنقل.. وفي سبيل ذلك علينا مراجعة الكثير من تراثنا وأفكارنا التي تعمّق الكراهية والعداء والانعزال بين الفئات المختلفة، وعلى بعض الحكومات التي تحاول ترقيع ضعفها بإثارة الطائفية لصرف الأنظار عن فشلها وفسادها أن تعي بأن إشعال الفتنة وتقسيم الشعوب لن يأتي إلا بدمار الأوطان وإنما تأتي قوة الدولة واستقرارها بتحقيق العدالة والمساواة والحرية، بالبناء والإصلاح لا بالخراب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق