السبت، 21 نوفمبر 2015

فخ الحرية




آدم كورتس هو منتج أفلام وثائقية للبي بي سي، تسلّط أفلامه الضوء على خفايا عالم السياسة والاقتصاد وتلاعب السياسيين وحقيقة بعض المفاهيم الزائفة في حياتنا، تتميز أعماله بالمصداقية والواقعية ولن تجد فيها أحاديث عن نظريات مؤامرة مبالغ فيها ومؤامرات سرية افتراضية ووهمية، ويوثق ما يقوله بأدلة وتسجيلات أوردها في أفلامه.



في فيلمه الذي أنتجه عام 2007:
The Trap: What happened to our dream of freedom
يتحدث عن مفهوم الحرية وعلاقته بنظريات وضعها علماء في الفلسفة والرياضيات أيام الحرب الباردة واستمرت ليومنا فأوقعتنا في "فخ" حرية ضيقة ومزيفة.
يبدأ الفيلم حديثه عن الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية، فحينها كانت الثقة معدومة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي فقرر كل طرف امتلاك قنابل نووية حتى يكون في وضع آمن، ويتحقق الاستقرار.. هذه كانت فكرة ونظرية جون ناش الذي تدور حوله أحداث فيلم (ببيوتيفل مايند) الذي ربح 4 جوائز أوسكار في 2002.



نظرية ناش (نظرية اللعبة) حول التصرف البشري تقول بأنك لتفوز عليك بخيانة الطرف الآخر، والاستقرار لا يتحقق إلا بأنانية كل طرف. عُرف لاحقاً أن ناش يعاني من اضطرابات نفسية وبارانويا وكان يعتقد أن مؤامرات سرية تدار ضده، خضع للعلاج منها، وهذا لا يقلل من القيمة العلمية الكبيرة التي قدمها بنظرياته.




نظرية ناش (نظرية اللعبة) هي التي حددت السياسة الأمريكية في امتلاك الأسلحة النووية في الحرب الباردة. كانت أمام أمريكا أربع احتمالات لا خامس لها:
1. كل من أمريكا والاتحاد السوفييتي يمتلك سلاح نووي.
2. كل منهما لا يمتلك سلاح نووي.
3. أمريكا تمتلك دون الاتحاد السوفييتي.
4. الاتحاد السوفييتي يمتلك دون أمريكا.
كان لكل احتمال نصف بيد أمريكا وعلمها والآخر مخفي عنها وخارج إرادتها، وفي المحصلة رأت أمريكا أن أسلم الخيارات هي أن تمتلك سلاح نووي!



تحدث الفيلم عن عالم النفس ر.د. لانغ الذي اعتقد أن المشاعر الإنسانية كالحب لم تأت من داخل النفس إلا لدوافع أنانية كالسيطرة والتحكم، فالإنسان يحب ويعطف وأحياناً يؤثر ويضحي ليحقق مكاسب مادية أو معنوية من الغير في المستقبل القريب أو البعيد، هذه الحالة تنتج في النهاية الاستقرار في المجتمع. وهي توازي "نظرية اللعبة" في عالم السياسة.
يعتقد لانغ أنه لا يمكنك الوثوق بأي من المؤسسات السياسية في العالم، فكلها تستغل شعارات المساعدة والحرية في سبيل التحكم في عقلك وتدمير حريتك.



قادت نظريات لانغ عالم النفس والبروفيسور الأمريكي ديفيد روزنهان لإجراء تجربة "مجنونة" بدخول أحد المصحات النفسية وادعاء المرض مع مجموعة من الأصحاء الآخرين بغرض كشف خداع هذه المؤسسات. هذه التجربة حطمت الصورة الناصعة للأطباء النفسيين الذين بالغوا آنذاك في تصنيف الناس إلى أصحاء وغير أصحاء وأفرطوا في وصف الأدوية للمراجعين.



كان الجزء الأول من التجربة هو دخوله ومجموعته لمصحات نفسية مختلفة وادعاء أعراض الهلوسة، كانت النتيجة هي إبقاؤهم في المصحات وتشخيص حالاتهم على أنها اضطرابات نفسية. بعد دخولهم تصرف المرضى المزيفون بشكل طبيعي وأخبروا الطاقم الطبي أن الهلوسة قد توقفت، ومع ذلك أُرغموا على البقاء لفترة معينة وتناولْ أدوية معينة كشرط للخروج من المصح.

أما الجزء الثاني من التجربة فكان محاولة رد اعتبار من إحدى المستشفيات التي أحست بالإهانة من تجربة روزنهان، فطلبت منه إرسال مرضى وهميين للمستشفى وتحدته بأن يتم كشفهم من أطبائها، النتيجة كانت أن أعلنت المستفى لاحقاً تحديد 41 مريض مزيف محتمل من بين 193 مريض دخل المستشفى منذ إعلان التحدي.. ولكن المفاجأة كانت من روزنهان بإعلانه أنه لم يرسل أي مريض مزيف هذه المرة! خسرت المستشفى التحدي وفقدت الكثير من ثقة الأمريكيين بقدرتها ومصداقيتها.

يتحدث كورتس بعد ذلك عن السياسيين في أمريكا الذين وعدوا الناس بإلغاء البيروقراطية والطبقية وتطبيق الحرية والمساواة، بينما في الحقيقة أوقعوهم في "فخ" معادلات وحسابات رياضية. ساعدت نظريات من علم الجينات (مثل نظرية الجين الأناني) في تصوير البشر بأنهم مبرمجين ويمكن تحليل تصرفاتهم بأرقام ومعادلات رياضية. تلك النظرية تقول بأن جينات الكائنات الحية هي التي تتحكم في تصرفاتها بهدف البقاء ونشر جيناتها، كتب عنها ريتشارد دوكنز كتاباً مستقلاً.



لعبت الاستبيانات دوراً في تحويل الإنسان إلى كائن بسيط سهل التوقع وأشبه بالروبوت دون الأخذ بالاعتبار ظروف وتفاصيل كل إنسان. اعتماداً على الاستبيانات تم اعتبار الملايين مرضى نفسيين ووصف أدوية لهم مع أن أعراضهم قد تكون جزءاً طبيعياً من حياة الإنسان كالقلق والتوتر.


في عهد بلير رئيس وزراء بريطانيا السابق، سيطرت على الهيئات أنظمة رقمية لتقييم أدائها بناء على أهداف محددة، فأصبحت الأرقام وتحقيق التقييم الأعلى هو الهدف والهاجس بدلاً من الغايات الحقيقية من هذه الهيئات.

فمثلا المستشفيات تلاعبت بأحد الأهداف المطلوبة منها وهو تقليل عدد العلميات تحت الانتظار فوضعت العمليات السهلة في الأولوية على حساب عمليات السرطان، فارتفع تقييم المستشفى كرقم ولكن على حساب الهدف الحقيقي وهو صحة المرضى وراحتهم، وبالمثل تعمدت جدولة عمليات في أيام عطل المرضى ليتعذر حضورهم، وتلاعبت في بعض التصنيفات والتعاريف لتحقيق أهداف أخرى مطلوبة منهم.


أما الشرطة فكان أحد الأهداف المطلوبة منها تقليل عدد الجرائم المسجلة، وبالفعل أعلنت في إحدى السنوات تحقيق أفضل أداء خلال 25 سنة، ولكن تبين لاحقاً أن الشرطة تلاعبت في تعريف بعض الجرائم لتجنب اعتبارها كجريمة، فمثلاً لا تُعد السرقة تحت التهديد جريمة وبالتالي تحقق الشرطة رقماً ظاهرياً أفضل!

الهوس في تحقيق الأهداف كأرقام دفع الموظفين لخلق استراتيجيات للتلاعب فيها، وبالتالي الحفاظ على وظائفهم وحصد مكافآت وترقيات، ما لم يضعه مؤسسو هذه الأنظمة في الحسبان أن الأهداف عندما تكون مستحيلة أو غير واقعية، سيلجأ الناس للغش والتلاعب لتحقيقها.


في مجال التعليم، قامت الحكومة بتصنيف وتقييم المدارس حسب أدائها، ظناً منها أنها ستشجع المدارس لرفع مستواها وبالتالي دعم التعليم، ما حدث هو أن الأغنياء نقلوا أبناءهم للمدارس الأفضل ومع الوقت أصبحت البيوت القريبة منها أغلى ثمناً بسبب تزاحم الأغنياء ورغبتهم بالسكن فيها، والنتيجة في النهاية أن المدارس الجيدة أصبحت حكراً للأغنياء. أما المدارس الأقل تقييماً في بريطانيا فلتعويض الفارق في المستوى التعليمي علّمت الطلبة فقط ما يحتاجون للنجاح في الاختبارات ولم تسع لتطبيق التعليم الأفضل (وهو واقع عايشناه في الكويت بالمناسبة!).


نتيجة الفصل في التعليم حسب الثروة في بريطانيا هي أنه صار أصعب على المولود من عائلة فقيرة أن يخرج من الفقر وزاد احتمال أن يموت فقيراً. أصبح المجتمع البريطاني – نتيجة لما سبق - أكثر جموداً وطبقية من أي وقت مضى منذ الحرب العالمية الثانية بسبب تحويل البشر إلى بشر آليين خاضعين فقط لأرقام ومعادلات!


يتحدث كورتس بعد ذلك عن نوعين من الحرية واحدة إيجابية والأخرى سلبية، وعن التدخل بالقوة لفرض مبادئ الحرية وتحولها إلى عنف واستبداد وخداع. كان الفيلسوف البريطاني بيرلين هو صاحب تعريف الحرية الإيجابية والسلبية، وقد تنبأ وحذر من تحول الحرية السلبية إلى إيجابية أي فرضها بالقوة والخداع أحياناً.

تدّعي أمريكا أن مهمتها في العالم تحقيق الحرية بحسب التعريف الذي تتبناه.. وإن استلزم ذلك القوة، مما دفعها للتدخل في مصائر شعوب أخرى على مدى التاريخ. في الستينيات والسبعينيات دعمت أمريكا دكتاتوريات قمعت ثورات شعبية فقط لأنها تحمل الفكر الاشتراكي الذي تعتبره أمريكا خطراً، وقد راح الآلاف من البشر ضحية لهذه الأنظمة الدكتاتورية.


في عهد نيكسون دعمت أمريكا أنظمة دكتاتورية في تشيلي والفلبين استخدمت وسائل التعذيب والقتل العشوائي لفرض قوتها.

الثورة الإيرانية التي قامت بنفس مفاهيم الثورة الفرنسية عن الحرية برأي كورتس، أظهرت فشل السياسة الأمريكية بدعم الدكتاتوريات عسكرياً. الخميني قاد الثورة متأثراً بأفكار علي شريعتي الذي درس في باريس وتأثر بمفاهيم الحرية الإيجابية وأخرج الشيعة من السلبية إلى الحركية والثورية.

وفي الثمانينيات اضطرت أمريكا لإجبار الأنظمة الدكتاتورية في الفلبين وتشيلي على إجراء انتخابات فسقط كلا الحاكمين. التغيير الذي حصل هناك كان فقط نقل السلطة من جهة لأخرى ولكن الفساد استمر، والفجوة بين من يملك القوة والثروة ومن لا يملكها لم تقل، كما كان يفترض أن تقوم به الحرية والعدالة.



أما الجانب الآخر من المشروع الأمريكي فكان استخدام القوة بشكل خفي لإسقاط الأنظمة التي كانت تقف في وجه الحرية بنظرها، ففي نيكاراغوا موّلت أمريكا ودربت جيش ثورة لإسقاط النظام الاشتراكي هناك واستعانت بالكذب لإقناع الشعب الأمريكي بخطورة ذاك النظام على أمريكا، استعملت ما يسمى بـ "البروباغندا البيضاء"، فتم ترويج قصصاً مفبركة للصحافة عن مقاتلين روس دخلوا نيكاراغوا لمهاجمة أمريكا (كانت روسيا هي العدو التقليدي لأمريكا والفزّاعة لشعبها لأي خطر وهمي). أما المخابرات فروجت أيضاً أخباراً بأن روسيا أعطت نيكاراغوا أسلحة كيميائية، وتحدث عنها ريجان في خطبته للشعب. بذلك حوّلت أمريكا التهديدات المعدومة أو الصغيرة إلى خطر حقيقي على أمن أمريكا، كان الكذب والمبالغة مبرراً له في تلك الحالة!


إضافة إلى ما سبق، دعمت أمريكا جماعات مسلحة في نيكاراغوا كانت متورطة بجرائم القتل والعنف وتجارة المخدرات. وفي ١٩٨٥ تم اتفاق سري ببيع أسلحة أمريكية لإيران مقابل إطلاق سراح رهائن في لبنان إضافة إلى أرباح سرية استخدمت لتمويل تلك الجماعات الإرهابية في نيكاراغوا. كما وفرت المخابرات الأمريكية طائرة لهؤلاء الثوار المعادين للنظام الاشتراكي والتي تبين لاحقاً أنها استخدمتها أيضاً لتهريب المخدرات إلى داخل أمريكا للربح وتمويل عملياتها!


في أوروبا (بين 1989 و 1991) ظهرت الثورة تلو الأخرى للإطاحة بالأنظمة المستبدة، وكلها قامت حسب رأي كورتس لرغبة حقيقية في تحقيق الحرية.
في روسيا مع سقوط الاتحاد السوفييتي تدخلت أمريكا بشكل خفي لتوجيه النظام الاقتصادي الجديد بعد سقوط النظام الاشتراكي. لم يكن آنذاك للعملة الروسية أي قيمة فبدأت الشركات تعطي الموظفين السلع التي تنتجها بدلاً من الرواتب، وهم بدورهم يبيعونها بأقل الأثمان. تم بعدها تطبيق نظام الخصخصة وأعطي للناس أسهم للمشاركة في امتلاك شركات الخصخصة، فقام أغلبهم ببيعها لرجال الأعمال الأغنياء فامتلك هؤلاء كل شيء وزاد الوضع سوءاً.


حدثت بعد ذلك أزمة في البرلمان عندما قام الرئيس يلتسن بحله واحتل النواب مقر البرلمان فأعطى يلتسن أوامره بالهجوم بالدبابات على مبنى البرلمان.
جاء بوتين للسلطة ووضع الأولوية للنظام والرواتب والحياة الكريمة على حساب مبادئ الحرية، وافقه معظم الروس على ذلك بعد أزمة مالية طويلة أرهقت الشعب فقراً في روسيا.


في حرب العراق ٢٠٠٣ كررت أمريكا نفس المبالغات لتبرير الحرب، ونتيجة للحرب تم هدم كل البنى التحتية وكل مقومات الحياة في العراق. ومثلما حصل في روسيا، دعت أمريكا للخصخصة في العراق، فتمت سرقات وفساد في صفقات إعادة البناء، حسبما يذكر الفيلم الوثائقي.

وفي أثناء هذا الفراغ الكبير تمت صياغة الدستور من خلال أشخاص عينتهم أمريكا وليسوا منتخبين من قبل الشعب، مما دعا السيستاني الرجل الديني الأبرز لإصدار سلسلة من الفتاوى، فأعلن أن هذا الدستور نسخة ضيقة محدودة من الديمقراطية ويعارض العقد الاجتماعي بين الناس والحاكم. كلامه مقتبس من مبادئ الثورة الفرنسية.
دعا السيستاني للمظاهرات المطالِبة بالديمقراطية الحقيقية التي إن لم يتم تحقيقها فسيشغل هذا الفراغ حكم متطرف غير ديمقراطي. أُهملت توجيهاته من قبل أمريكا وعمت الفوضى في العراق.


برأي كورتس، التعريف الغربي الضيق للحرية لم يستطع التعامل مع المجتمع الذي لا يتكون من أفراد فقط ولكن من مجموعات متعارضة الأفكار والتوجهات. استخدمت أمريكا منهج العنف والتعذيب لتطبيق فكرتها عن الحرية، وفي المقابل مارس المتطرفون الإسلاميون الاغتيال والتفجير لتطبيق فكرة الدولة الإسلامية.

أما في لندن، فبعد تفجيرات 2005 ولضمان الأمن، تساهل توني بلير في القوانين في سبيل سرعة معاقبة المشتبه بهم وإيقافهم، فأصبح بيد الحكومة تحديد من هو الخارج عن القانون ومن قد يشكل خطراً على الأمن ولو بدليل ضعيف أو معدوم.

أصبح للقادة الحق في تحديد من يتبع نموذجهم للحرية، والحق في التعامل مع من يخالف هذا النموذج بالطريقة التي يحددونها هم نفسهم.

فكرة الحرية التي نعيشها اليوم – برأي كورتس - ذات مفهوم محدود وضيق، نشأت بفترة خطيرة وحساسة هي سنوات الحرب الباردة، ربما كان لها معنى وغرض آنذاك لكنها أصبحت فخاً خطيراً.

المؤلف كورتس يدعو الشعوب لإثبات أن الفيلسوف بيرلين كان مخطئاً عندما تصور أن الحرية الإيجابية دائماً ما تنتهي إلى الفوضى والفساد.

ملاحظة: الصور من مصادر مختلفة من الانترنت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق