الخميس، 25 فبراير 2016

ذكريات الغزو والتحرير


بالتأكيد لن تكون ذكريات طفل بالسابعة من عمره مهمة ومثيرة كمذكرات رجل راشد عاش تلك الأيام وأدرك تلك الأزمة والمأساة بجميع تفاصيلها، ولكنها تعكس جوانب مهمة وستظل محفورة في ذاكرتي إلى الأبد.

·       أول أيام الغزو، كنا في الدور الأعلى من المنزل في منطقة الدسمة، كانت الهلكبترات تحوم في سماء الكويت، كانت قريبة جداً لدرجة أننا كنا نلوح بتحيتهم (جاهلين هويتهم طبعاً) ونراهم يلوحون لنا.. أو هكذا تخيلنا!!

·       بعدها بقليل التقينا بأمي رحمها الله في الحوش لتخبرنا أن نلزم الحذر فهذا هو أخطر يوم في حياتنا!!

·       كانت تربطنا علاقة وثيقة جداً مع كل جيراننا، كنا حرفياً ومن دون مبالغة عائلة واحدة وبيتاً واحداً، ندخل ونخرج من بيوت الجيران وكأنها بيوتنا، بسبب أيام الأزمة تربطنا بجيراننا حتى اليوم علاقة أكبر من مجرد جيرة..

·       كأطفال لم نكن نشعر بالخوف! لا أتذكر قط أنني رأيت أبي وأمي مرعوبين سواء من الضربات التي نسعمها ونشعر باهتزازتها، أو من الطلقات النارية الحمراء التي نراها في السماء، أو أثناء نقاط تفتيش السيارات أو أيام تفتيش المنازل.. نجحا بكل كفاءة بإقناعنا بأن كل شيء على ما يرام. حاولا إقناعنا بأن النيران في السماء كانت ألعاباً نارية، والمخبأ الذي أعدوه من طاولة الطعام للاحتماء كان مجرد منزل –لعبة- للأطفال.

·       أتذكر أن الوالدين أحضرا لوحاً خشبياً، كان في الحقيقة باباً لأحد الكبتات ولونه قريب من الأبيض، قاما برسم خطوط علم الكويت وكنا نقوم بتلوينه، كانت مهمة شاقة بالتأكيد ولكن هل هناك طفل لا يحب التلوين؟! علمنا لاحقاً أن هذا العلم سيتم وضعه على سطح المنزل كإعلان ولاء لدولة الكويت ورفض الاحتلال العراقي.

·       في فترة من فترات الغزو، أقامت والدتي مدرسة مصغّرة في البيت كمحاولة تعويض لتوقف المدارس، وبمشاركة من أطفال الجيران. وفي أيام الحرب الأخيرة أذكر فترة أخرى من التدريس.. أتذكر بالذات كتاب (التربية الإسلامية) ودرس الأذان.. يبدو أن تعليم الأذان كان يتم في الصف الثاني الابتدائي.

·       كانت البقالات المنزلية رائجة آنذاك، وأذكر أن وانيت الجيران كان عبارة عن بقالة متنقلة أحياناً.

·       كانت أيام الغزو هي بداياتي مع الكرة، كانت تلك الفترة مثل معسكر تأسيسي تدريبي وتثقيفي أيضاً، حيث تعلمت أسماء اللاعبين والأندية والمنتخبات من ولد خالي.

·       شاهدت تعرض أبناء الجيران للسب والإهانة من قبل مجموعة من الأولاد الفلسطينيين***، كان موقفاً لا يُنسى لأن جارنا (كان في حوالي الـ16 من العمر) كان يتحمل القهر والإهانة ولا يستطيع الرد بسبب كثرتهم واستقوائهم آنذاك.

·       أذكر أيضاً تعرّض والدتي رحمها الله للإهانة والظلم من بعض الفلسطينيين في طابور الخبز.

·       نقاط تفتيش السيارات كانت أمراً اعتيادياً وفي الغالب تمر بسلام دون مشاكل، ولكني لا أنسى محاولاتنا دخول ضاحية صباح السالم (حيث بيتنا المستقبلي) والجنود قد أغلقوا المنطقة (مدخل قطعة 5/6 من الدائري السادس) ورفضوا السماح لنا بالدخول فأخبرهم الوالد بأن بيتنا هنا فكيف لا ندخل، وارتفعت حدة الكلام بين الطرفين انتهت بتهديد الجندي باستخدم الرشاش الذي كان بيده.

·       عندما سمعنا عن فترة تفتيش المنازل كان الجميع يترقب متى يأتي الدور على بيتنا، والحمد لله مر ذلك اليوم بسلام وعرفنا ذلك بعد استيقاظنا من النوم. تبين أن الجنود الذي فتشوا البيت كانوا "كيوت" نوعاً ما، ولم يأخذوا من المنزل سوى ككاو "مارس" الخاص بأخي سلمان!

·       كانت فكرتنا عن (صدام حسين) مشوشة، ففي الوقت الذي نسمع أنه سيء وشرير، كنا نتلقى الأوامر بعدم الحديث عنه بذلك.. طبعاً حتى (لا نييب العيد)!
ولكني أذكر أن دفتر رسومات أخي لم تخل من رسوم ساخرة من صدام.
وعلى طاري الرسوم، كانت الرسمة الوحيدة التي أجيدها في فترة الابتدائي بعد الغزو، هي رسمة لطائرة حربية كبيرة ودبابة وأعلام.. أتصور أن مدرس الرسم ارتفع ضغطه من تكرار تلك الرسمة!

·       أكثر مواقف الغزو إثارة وشجاعة.. كنا جالسين في المطبخ، في الفترة الأخيرة من الغزو حيث لا يخرج أحد من المنزل، رأينا شخصاً يتسلل من المنزل خلفنا ويمشي على السور، خرجنا جميعاً ودار حوار بالطبع لم أفهم منه شيئاً ولا أتذكر، ولكن علمنا أن هذا الرجل مطلوب وهارب من جنود الاحتلال، وكانت النتيجة أن طلبت أمي من أختي عباءتها، ألبستها للرجل الغريب، أتذكر نظرات أختي المرعوبة المصدومة، وأذكر أمي والرجل يغادران ويتواريان عن الأنظار، ثم عودة أمي بالسلامة، حيث أوصلت الرجل إلى مكان آمن.

·       كانت رائحة الجاز لا تفارقنا، وأعتقد أني ورثت حبي لرائحته حتى اليوم! كنا نستخدم السراي المحلي الصنع للإنارة، وهو عبارة عن بُطل زجاجي (قنينة)، وأنبوب رفيع كان يُفصل من ليتات البيت. أذكر أن خالي حميد (شافاه الله وعافاه) كان الخبير بصناعتها.

·       من مهارات "السحر" التي تعلمناها من أيام الظلام، أن يدك لا تحترق من لهب الشمعة عند إمرار يدك بسرعة، كانت هذه إحدى الألعاب المسلية النادرة في تلك الفترة، والآن أتباهى بها.. بعد 25 سنة أمام أطفالي!

·       يوم التحرير كان مميزاً، كان أبي يتابع الأخبار عبر الراديو، أتذكر مشاعر الفرح واللهفة المختلطة بالتشكيك بمصداقية الأخبار، أذكر تجمع الجيران أمام منزلنا، لا يزال هناك بعض القلق ممزوج مع الفرحة بتحرير الوطن، والفرحة بالخروج من المنزل أخيراً. أتذكر أمهات الجيران يحاولن منع الشباب من الخروج بالسيارة للاحتفال ولكن فشلت محاولاتهن..

·       أخيراً شاركنا كلنا في فرحة التحرير، تجمعنا عند الدائري الثاني (أمام موقع حسينية أمير المؤمنين حالياً)، خرجنا لنحيي قوات التحالف بمدرعاتها، كان جواً لا يصدّق، فرحة واحتفال بالجو الممطر.. كان للأعلام تواجد مميز، لا أعرف كيف حصلنا على تلك الأعلام.. أعلام الكويت وأعلام تحمل صور لاعبي منتخب الكويت، من يتذكر الأعلام التي تلتف داخل وخارج العصا البيضاء المجوّفة؟

·       منذ يوم التحرير، ابتدأت مع كل فتيان الكويت هواية جديدة ألا وهي تجميع الرصاص المنثور في كل مكان، كنا نجمعها بشغف ونتباهى بالرصاص المميز وبمضادات الطائرات!

·       من الأشياء المميزة التي جمعناها، الأكياس السوداء التي تحتوي طعام لأفراد الجيش بالإضافة إلى مستلزمات الطوارئ.. للأسف لم نحفظ منها شيئاً.

·       لحظة مميزة جداً في حياتي ومليئة بالمشاعر كانت يوم استقبال ولي العهد بابا سعد الله يرحمه، تجمعنا في شارع الخليج وحلّت لحظة مرور موكبه، بابا سعد الذي كنا نتغنى باسمه ونشأنا على حبه منذ الطفولة مع بابا جابر، لم يمر أمامنا فقط بل وحظيت بمصافحة يده! بالطبع لم يكن الأمر سهلاً فأمي هي من حملتني وطاولت يدي لتصافحه في سيارته.. كانت ردة فعلي هي الانهيار بالبكاء، لم أستوعب ولم يستوعب أخواني لمَ بكيت.. ولكني أدرك الآن أنها ردة فعل طبيعية جداً.

·       لا أذكر متى بدأت فترة انقطاع الكهرباء وكم دامت بعد التحرير، ولكنها كانت فترة طويلة والجميع عانى منها.

·       من الأيام المميزة يوم استقبال خالي أحمد الله يرحمه من الأسر، تجمعنا في مكان مليء بالحشود المنتظرة لأسراها، وقرّت أعيننا بلقاء خالي الذي فاجأنا بلحية لم نعهدها عليه.

·       تلقى الوالد حفظه الله شهادة تقدير من وزارة الكهرباء والماء للدور الذي قام به في مزاولة عمله وخدمة أهل الكويت وأنا أشعر بالفخر والاعتزاز لكل ما قام به.

·       كانت لتلك الأيام رائحة مميزة، رائحة دخان الحرائق ورائحة الجاز، وظلمة السماء التي استمرت لشهور.. أسافر ذهنياً عبر الزمن كلما شممت رائحة مشابهة.. رائحة الغزو والتحرير!

----
*** أرجو أن لا يفهم القارئ مني التعميم بالنظرة السلبية على الجالية الفلسطينية في الكويت، فهم ككل البشر منهم الصالح والطالح والمخلص والخائن، ولا تعبر مشاهداتي القليلة أيام الغزو إلا عن وقائع فردية لا تعبّر عن الكل بطبيعة الحال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق